كيف ومتى بدأت مشاكلنا .. ؟
16 – حاولت فى البابا السابق أن أذكر المزايا التى نتمتع بها ويمكننا أن نستفيد منها ... كما ذكرت سريعاً الكثير من مشاكلنا التى نعانى منها والتى نتمنى أن نقضى عليها أو تقل كثيراً ...
وقد قصدت أن يأتى ذكرى للمزايا والمشاكل عن طريق الذكر فقط وبعيداً عن التفصيل ... وذلك حتى لا يتهم أحد التناول بالتهوين أو التهويل ...
17 - فى الباب الحالى ، وعبر الصفحات القادمة سأعرض وجهة نظرى فى كيفية نشأة هذه المشاكل .. ؟ ومتى .. ؟ ولماذا ظهرت .. ؟ وكيف كبرت واستفحلت حتى وصلت مصر إلى هذه الدرجة من المشاكل والأمراض ..؟ ، وكيف على الرغم من أننا لم ندخل حروباً منذ ما يزيد على 40 عاماً ، إلا أننا لم ننجح فى التقدم والنهوض .. ؟ بل الأعجب والأغرب من ذلك أننا تأخرنا ، وزادت مشاكلنا ، وأمراضنا ، فى الصفحات القادمة محاولة لمعرفة السبب فى كل ما نعانيه ...
18 – قبل أن أبدأ فى طرح وجهة نظرى عن مشاكلنا لابد أن نسأل أنفسنا أولاً عن مدى رضانا أو عدم رضانا عن تلك المشاكل ، وأن نحدد موقفنا منها أولاً ...
* هل الشعب المصرى راض عن المشاكل التى يحياها الآن ؟
- هل نحن راضون عن مستوى التعليم المتدنى ؟ وعن نسب البطالة العالية ؟
- هل نحن راضون عن انتشار الفساد ، والرشوة ، والواسطة ، والمحسوبية ، واضطرارنا للتعامل بها أحيانا ؟
- هل نحن راضون عن تدنى الأخلاق وانهيار الكثير من القيم فى مجتمعنا ؟
- هل نحن راضون عن الزحام المرورى ، وضياع الوقت وإهداره فى المواصلات ؟
- هل نحن راضون عن حالة الطرق السيئة ، وانتشار الحوادث ، وزيادة أعداد المصابين والوفيات جراء الحوادث؟
- هل نحن راضون عن اضطرارنا للسفر للعمل بالخارج والغربة والبعد عن الأهل والوطن والأحباب ، وما يعانيه المغتربون من آلام الغربة ؟ وما يدفعه المجتمع ثمناً لذلك .. ؟
- هل نحن راضون عن التلوث الموجود فى الغذاء والهواء والماء ؟
- هل نحن راضون عن انتشار الأمراض خاصة الفيروسات ، والسرطانات التى أصبحت لا تكاد تخلو منها عائلة مصرية ؟
- هل نحن راضون عن ارتفاع سن الزواج ، والعنوسة التى يعانى منها الملايين ؟
- هل نحن راضون عن انتشار الجرائم ، والعنف الذى أصاب المجتمع ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة أطفال الشوارع ، وزيادة حالات خطف الأطفال واختفائهم ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة زيادة حالات الطلاق ، وزيادة حالات الخلافات الزوجية والأسرية ؟
- هل نحن راضون عن انتشار العشوائيات ، وعن انهيار المنازل ؟
- هل نحن راضون عن زيادة أسعار العقارات بطريقة مبالغ فيها ؟
- هل نحن راضون عن غلاء الأسعار ؟
- هل نحن راضون عن الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة ضعف الانتماء الوطنى لدى الشباب ؟ وزيادة أعداد الراغبين فى السفر ، والهجرة ، والتجنس بجنسيات أخرى ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة ضعف الإقبال على الانتخابات ؟
- هل نحن راضون عن ندرة الفنون الجيدة ، وانتشار الفنون الهابطة ؟
- هل نحن راضون عن انخفاض المستوى العام للثقافة لدى جزء كبير من المصريين ؟
- هل نحن راضون عن زيادة حالات التسول ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة تأخر الفصل فى القضايا لفترات كبيرة ، وعدم تنفيذ الأحكام سريعاً ؟
- هل نحن راضون عن ضعف الإنتاج المحلى ، وتفضيل المنتج الأجنبى على المصرى ؟
- هل نحن راضون عن استيرادنا أغلب ما نستعمله ؟
- هل نحن راضون عن الانخفاض المستمر للجنيه المصرى أمام العملات الأجنبية ؟
- هل نحن راضون عن أن قدوة المجتمع لم يعد هو الطبيب ، أو المهندس ، أو العالم ، أو المفكر وإنما أصبح لاعب الكرة ، والممثل ، والمطرب ، والراقصة مع احترامنا للجميع ؟
- هل نحن راضون عن كثرة خلافاتنا سواء فى منازلنا ، أو أماكن عملنا ، أو الأماكن العامة ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة تجريف الأراضى الزراعية من أجل البناء عليها ؟
- هل نحن راضون عن ظاهرة انتشار المبانى المخالفة ؟ والتلوث البصرى الذى أصاب أذواق الكثير من المصريين ؟
- هل نحن راضون عن حالة فقدان الثقة الموجودة بين الحكومة والمسئولين وجزء كبير من الشعب ؟
- هل نحن راضون عن الألفاظ الخادشة للحياء ، التى أصبحت منتشرة فى الشارع المصرى .. ؟
- هل نحن راضون عن زيادة حالات الكذب ، والغش ، والنصب ، والسرقة فى المجتمع .. ؟
- هل نحن راضون عن الظلم الواقع على ملاك العقارات المستأجرة بما يعرف بقانون الإيجار القديم ؟
- هل نحن راضون عن الروتين ، والبيروقراطية الحكومية ، وتعطل المواطنين ، وما يعانونه عند إنهاء إجراءات تعاملهم مع المصالح الحكومية .. ؟
19 - لو كان لى الحق أن أجيب بالنيابة عن كل المصريين على الأسئلة السابقة فإن إجابتى ستكون بالنفى عليها جميعاً : لا ...
نحن لسنا راضين عن كل ما نعانيه ، ولسنا سعداء بكل تلك المشاكل ، ولكننا - أيضا وللأسف - يكاد الكثيرون منا لا يعرف لماذا ظهرت هذه المشاكل ، ولماذا تضخمت بهذا الحجم ولماذا لم نعد نستطيع القضاء عليها ؟
لماذا ظهرت كل تلك المشاكل ؟ ، وكيف ظهرت ؟ ، كيف تحكمت فينا ولم نستطع التحكم فيها أو التغلب عليها ؟
كيف أصبحت هذه المشاكل هى مفردات حياتنا ؟ ، وكيف أصبحت حياتنا مليئة بتلك المشاكل ؟
لماذا لم تتغير حياتنا للأفضل ... رغم أننا لم نحارب منذ أكثر من 40 عاماً ؟
لماذا لم ينجح الرئيس حسنى مبارك فى القضاء عليها ... رغم أنه ظل فى الحكم ما يقرب من 30 عاماً ؟
لماذا قامت ثورة 25 يناير 2011 ؟ ولماذا لم تستقر البلاد بعدها ؟ .
لماذا قامت ثورة 30 يونيو 2013 ؟ ولماذا لم تنصلح أحوالنا بعدها ؟ .
20 - بالقطع ... فإن كل تلك المشاكل لم تنشأ من فراغ ، ولم تظهر من عدم ، بالتأكيد وبالمنطق وبالعقل ... هناك أسباب هى المسئولة عن كل هذه المعاناة ، والتدهور ، والانهيار ... اسمحوا لى فى الصفحات القادمة أن أحاول طرح وجهة نظرى ، ورؤيتى عن أسباب مشاكلنا ، وكيف بدأت ، وكيف تضخمت ؟ .
21 - كل مشاكل مصر ( الدولة والمجتمع والفرد ) التى قمنا بالتنويه عنها فى الصفحات السابقة ليست وليدة اليوم أو الأمس ، وإنما ترجع لسنوات ولعقود ماضية ، بعضها يعود إلى الماضى القريب ، والبعض الآخر يعود إلى الماضى البعيد ، وبصفة عامة فإن مشاكل المجتمعات كالأمراض التى تصيب جسم الإنسان ، لابد لكى نعالجها أن نعرفها أولا ... ونحدد حجمها ، ومدى خطورتها ، ولابد كذلك أن نعرف أسباب نشأتها وحدوثها ، فإذا ما قمنا بتحديد الألم والمرض تحديداً دقيقاً صادقاً ، ومن ثم عرفنا أسباب حدوثه كان من السهل علينا بعد ذلك السعى نحو إيجاد علاج نافع شاف ، فلا علاج جيد بدون تشخيص صحيح ...
- والعكس صحيح ، أى أنه إذا لم يعرف الطبيب نوعية المرض ، وحجمه ، ويحدد أسبابه بطريقة صحيحة ، فإنه قد لا يستطيع علاج المريض ، وقد يتخبط فى وصفات وطرق علاجه ، فيظل يجرب علاجاً ثم علاجاً ، ويستبدل دواءً بدواءً ، ويزيد من جرعة ، أو يقلل من جرعة وبما قد يؤدى إلى تفاقم حالة المريض ، وربما وفاته ، وهو - فى كل الأحوال - يعتقد ويأمل ويتمنى شفاء المريض ، ولكن هيهات أن يحدث ذلك قبل أن يعرف الطبيب ، ويدرك ويحدد وبوضوح طبيعة المرض ، وحجمه ، وأسبابه ...
ولكى ينجح الطبيب فى ذلك فإنه يلجأ إلى إجراء الفحوص ، والأشعة ، والتحاليل اللازمة التى تساعده كثيراً فى معرفة وتحديد العلاج المناسب .
وهذا ما سوف أعرضه فى الصفحات القادمة فى هذا الباب ... محاولة تشخيص وتحليل أمراضنا حتى يكون هذا التحليل والتشخيص معيناً ومساعداً لنا عند بحثنا عن طرق العلاج والحل ... وهى ما سيتم ذكرها فى الباب الثالث إن شاء الله ...
22 - واسمحوا لى أن استعرض التحليل ، الذى أقدمه فى عدة نقاط قد تبدو منفصلة فى ظاهرها ، ولكنها مرتبطة - فى مضمونها - مع بعضها البعض ، تتكلم كل نقطة عن موضوع مختلف قد يرتبط بما قبله أو ما بعده من موضوعات ارتباطاً مباشراً ، وقد لا يكون هناك ارتباط مباشر ، ولكن من المؤكد أن تجميع النقاط والموضوعات مع بعضها البعض ، وتربيطها وتشبيكها مع بعضها البعض سيؤدى إلى تجميع وتكوين صورة شبه متكاملة لما أرغب فى طرحه بخصوص وجهة نظرى فى نشأة مشاكل مصر الحالية ، وتطورها ، ووصولنا إلى ما نحن عليه الآن .
23 - تاريخ المجتمعات كأنهار المياه الجارية التى لا تستقر ولا تثبت على حال ، وإنما تتحرك دائما وتتجدد مياهها دائما ، ومثلما تتعرض الأنهار لمنعطفات ومؤثرات تتغير فيها اتجاهاتها وتتبدل فيها أحوالها ، كذلك تتعرض المجتمعات لأحداث ومواقف تتغير فيها سياسياً ، واقتصادياً ، واجتماعياً ، ونفسياً ... وتتبدل أحوالها من قوة إلى ضعف أو من ضعف إلى قوة .
- على الرغم من أن بعض الصفات والعادات ، والأزمات التى تحكم المجتمع المصرى – حالياً - يرجع أصولها وأسباب نشأتها إلى مئات السنين ، وأحيانا الآلاف ، إلا أننا بالطبع لا يمكننا الرجوع إلى هذه العصور البعيدة ، لتحليل ما نحن فيه الآن من مشاكل وأمراض ، وإلا كان هذا التحليل ضربا من الخيال ، ونوعا من أنواع الجنون ، أو ربما هروبا من تحمل المسئولية بأن يتم إسنادها إلى الأجداد ، وأجداد الأجداد .
24 - وحتى يصبح تحليلنا لمشاكلنا منطقياً ونستطيع أن نربط فيه بين الأسباب والنتائج ، وبين البدايات والنهايات ، وبين الأحداث وردود أفعالها ، فإننى سأبدأ من نقطة زمنية محددة وعلامة فارقة فى تاريخ مصر الحديث ألا وهى حرب يونيو 1967 م ، تلك السنة المؤثرة فى كل جوانب المجتمع المصرى والتى تعتبر وبحق مفترق طرق فى تاريخ المصريين وحياتهم ، فالمصريون بعد 1967 ليسوا كالمصريين قبل 1967. ومصر بعد 1967 ليست كمصر قبل 1967 ، سنبدأ تحليلنا قبل 1967 ثم نتحرك مع أحداث مصر وتغيراتها حتى نصل إلى الوقت الراهن .
25 – اختيارى لعام 1967 كمفترق طرق فى تاريخ مصر والمصريين ، وكنقطة بداية فى رصد ظهور المشاكل الحالية لا يعنى أن مصر كانت قبل ذلك لا تعانى من أى مشكلات ، وإنما يعنى أن مشاكل كثيرة قد ظهرت فى هذا التاريخ وبعده ...
أما السياسات التى كانت متبعة قبل ذلك فإما أن نتائجها لم تكن قد ظهرت بعد ... وإما أنها كانت واضحة ولا تحتاج إلى إعادة تأكيد ، مثل الغياب التام للديمقراطية ، والقضاء على الحياة الحزبية ، وعودة دولة الرأى الواحد ، وزيادة القيود على الحريات والصحافة ...
26 - كانت مصر قبل 1967 دولة اشتراكية مركزية [1] تسيطر فيها الحكومة على مقدرات الاقتصاد ، وعلى كل أدوات الإنتاج من مصانع وشركات ، ويلعب القطاع العام الدور الرئيسى فى الاقتصاد ، وتقوم الحكومة بوضع ما يسمى بالخطة الخمسية ( خطة اقتصادية تستمر خمس سنوات ) تحدد فيها الدولة المشروعات الأساسية التى ستنشئها فى كل المجالات بناءً على تحديد احتياجات المجتمع ، وطبقا لقدرة الدولة والاقتصاد على النمو . كانت الدولة هى المهيمنة على كل الأنشطة الاقتصادية ؛ هى من تبنى المدارس ، والجامعات ، والمستشفيات ، والمساكن ، والمصانع ، والجمعيات التعاونية ، والمسارح ، والملاعب ، والمتنزهات ، وكانت الدولة توفر للمواطن التعليم ، والغذاء ، والعلاج ، والملابس ، والمواصلات ، والأجهزة المنزلية ، وكانت الدولة مالكة للإذاعة والتليفزيون ، والصحف ، والمجلات ، وأغلب دور السينما ... الخ
27 - كانت الدولة للمواطن هى كل شيء ؛ هى من تقوم بتوظيفه ، وتعليمه ، وتثقيفه ، وتجنيده ، وعلاجه ، وتطعيمه ، وإطعامه ، كان المجتمع المصرى – وقتها - منغلقا اقتصاديا ... يستهلك ما ينتجه ، ولا يسمح بالاستيراد إلا فيما ندر ، ولم يكن السفر سهلا مثلما هو الحال الآن ، وكانت الحياة مازالت هادئة ، ومعدلات النمو الاقتصادى تتناسب مع معدلات النمو السكانى إلى حد كبير ، وكانت احتياجات المواطن بسيطة ومحدودة ، وكذلك رفاهية الحياة ، فالتكنولوجيا لم تكن مثلما هى الآن ، والاختراعات والمنتجات لم تكن بمثل هذا التنوع والسرعة التى شهدتها الحياة بعد ذلك .
28 - كانت أعداد السيارات والتليفونات فى مصر قليلة جداً ، وكذلك كل الأجهزة مثل الثلاجات والغسالات والتكييف وغيرها ... وكان من يشترى جهاز راديو أو جهاز تليفزيون يظل سعيداً به لفترة طويلة بعكس الحال فى أيامنا هذه ، حيث سرعة الحياة الكبيرة جداً وسرعة ظهور منتجات وموديلات جديدة فى كل المنتجات ...
29 - كان أغلب المصريين يعملون لدى الدولة ، وكان حجم القطاع الخاص فى الحياة الاقتصادية ضعيفاً ، خاصة بعد قرارات التأميم فى أوائل الستينيات ، لذلك كانت الفروق
الاجتماعية ، والاقتصادية بين الطبقات ليست ضخمة بمثل ما هى عليه الآن ، وكان الانتقال الطبقى من طبقة لطبقة محدوداً أو لم يكن سريعاً أبداً .
- كان من السهل على الجميع أن يعمل ويحيا ... وليس من السهل عليهم أن يغنوا أو يثروا
وكانت القناعة والبساطة مازالت موجودة بين أبناء المجتمع فالحياة هادئة مهما كانت مشاكلها ، والمعيشة سهلة حتى ولو كانت فى بعض الأحيان متدنية ، فعدد السكان بالنسبة للمساحة ليس بالكثير أو الضخم ، ومساحة الأراضى المزروعة تكفى احتياجات الشعب الأساسية والشقق السكنية متوفرة ويتم عرضها للإيجار فلا تجد من يسكنها ، ونسب البطالة ضعيفة .
- ولم يكن أغلب المجتمع يغالى فى المظهرية مثلما الحال الآن ، فكان الشباب يتزوج فى سن مبكرة وبأقل التكاليف ( إذا رغب فى ذلك ) ، ولم تكن الرعاية الصحية قد تقدمت مثلما هى الآن ، فكانت نسبة الوفيات مرتفعة خاصة بين المواليد والأطفال ، ولذلك فإن الانفجار السكانى الكبير لم يكن قد بدأ بعد ...
ساعدت هذه العوامل فى تشكيل مجتمع هادئ يزيد فيه الصدق على الكذب والإتقان على الغش والأمانة على الخيانة ؛ مجتمع يتعاون أكثر مما يتصارع ، تسود فيه الإيجابيات عن السلبيات وتحكمه الأخلاق والقيم .
30 – أما على مستوى الحياة الثقافية ، فكانت الدولة تعطيها أهمية خاصة ، وكانت مصر تعيش عصراً من أزهى عصور إبداعاتها الثقافية ؛ فالمجتمع يزخر بالمفكرين ، والأدباء ، والكتاب ، والمؤلفين ، والمطربين ... وكانت الفنون راقية رغم محدودية مواردها ورغم عدم وصولها لكل أبناء الشعب وقد شهدت تلك الفترة أعمالا أدبية ، وروائية ، وفنية ، ومسرحية ، وموسيقية ، وفكرية تعتبر علامات فى تاريخ الثقافة المصرية ...
31 - على المستوى الاقتصادى للدولة لم تكن مصر قد عرفت الديون الكبيرة بعد ، فكل مديونية مصر وقت وفاة الرئيس جمال عبد الناصر كانت مليار جنيه ( وهى ديون عسكرية لروسيا بسبب إعادة تسليح الجيش المصرى ) ...
32 - وعلى المستوى السياسى الخارجى [2] والإقليمى والعلاقات الدولية كانت مصر من أكبر وأقوى دول المنطقة العربية ، والقارة الإفريقية ، وعضواً مؤسساً ومؤثراً فى حركة عدم الانحياز ، وكانت لمصر مساعداتها لدول إفريقيا وللكثير من الدول العربية ، ولم يكن هناك شئ أو تغيير يحدث فى الشرق الأوسط إلا ومصر كانت هى مفتاحه ومركزه ...
- وأيا ما كانت نظرتنا وتأييدنا لأفكار وسياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر الدور الذى كان لمصر وقتها إفريقياً وعربياً وإسلامياً ، كانت مصر تقدم المساعدات لدول إفريقيا ، وتساند الشعوب فى ثوراتها ضد الاحتلال من أجل حصولها على الاستقلال ...
33 - كان الشعور الوطنى والانتماء لدى المواطن المصرى فى قمته خاصة أن مصر كانت من أوليات الدول التى تخلصت من الاستعمار ، وكان الخطاب السياسى يصدر للمواطن الإحساس بالعزة والثقة والكرامة ، وأن مصر قادرة على الوقوف ضد أطماع الدول الكبرى ... وكانت الدولة مازالت رشيقة ، ولم تترهل أجهزتها بعد ، وكانت المشروعات الكبرى تتزايد عاما بعد عام ، وكانت التوقعات بأن مصر ستصبح دولة كبرى ، كانت الأحلام الوطنية كبيرة ، وكانت المجهودات كبيرة ، وكانت الإنجازات كثيرة ، كانت الدولة تخطو خطوات كلها ثقة على طريق التقدم ، وكانت مصانع الحديد والصلب قد بدأ إنشاؤها ، وجار إنشاء مصانع الألومنيوم ... وكذلك أنشأت الدولة 1200 مصنع منها عربات السكك الحديدية ، وإطارات السيارات ، والكابلات الكهربائية ، والبطاريات ، والدراجات ، والثلاجات ، والبوتاجازات ، والتليفزيونات ، وشركات الأسمدة ، والأدوية ...
وكان العمل جارياً فى بناء السد العالى ، وكانت الأبحاث النووية قد بدأت وقطعت شوطاً لا بأس به ، وبدأ تجميع أول سيارة مصرية ، وكذلك صنعت مصر طائرة نفاثة ( القاهرة 300 ) ، وكانت التجارب قد أجريت على صواريخ بعيدة المدى هى القاهر والظافر ( تجربة تحترم حتى ولو لم تكن قد نجحت ) وكانت مصر رائدة فى مجال الإذاعة والتليفزيون ، والإنتاج السينمائى ... كل ذلك صنع حالة من الثقة لدى الشعب والقيادة ... ولكن سرعان ما تبخر ذلك ...
34 - وجاءت حرب يونيو 1967 ، حرب الأيام الستة ، وجاءت نتائجها صادمة وعلى غير المتوقع ، انهزمت مصر وسوريا والأردن وغزة والضفة الغربية ، واحتلت القدس ، ستة أيام نقلت المجتمع كله ( حكومة وشعباً ) والأمة العربية من حال إلى حال ، وظهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مخاطباً الشعب وهو حزين منكسر يعلن تحمله المسئولية بعد أن كان قبل الحرب بأيام قليلة يعلن بأنه سيلقى بإسرائيل ، ومن وراء إسرائيل فى البحر ، خسرت مصر فى الحرب أغلب سلاح طيرانها وقوتها العسكرية ...
35 - كانت هزيمة مصر العسكرية فى 1967 كبيرة ومؤسفة ، فقد احتلت إسرائيل سيناء كلها ، ووصلت بقواتها ورابطت على شرق قناة السويس ، إلا أن الهزيمة الأكبر والأكثر تأثيراً لم تكن هى هزيمة الجيش واحتلال الأرض بل كانت الهزيمة الأسوأ هى الهزيمة والصدمة النفسية الرهيبة التى تلقاها الشعب حينها ، فقد الكثيرون من المصريين توازنهم النفسى وأصيبوا – جميعاً - بالصدمة ولكنهم اختلفوا فى ردود أفعالهم تجاه الهزيمة ...
36 - جزء من المصريين تحولت الثقة لديهم إلى سخرية من النفس ، وتحول الفخر بالوطن إلى خجل وآسى ومرارة ، وتحول الاعتزاز إلى سخرية وجلد للذات ، فقد هذا الجزء الثقة بكل الشعارات الوطنية والسياسية السائدة وقتها ، خاصة بعد البيانات والمعلومات التى كان يسمعها المواطنون أثناء أيام الحرب عن النجاح العسكرى والتفوق التام للجيش المصرى ... ثم إذا بالجميع يصطدم بواقع مخالف تماماً عن كل ما كان يسمعه ... وأنه ومنذ اللحظات الأولى للحرب لم تكن هناك حرب بالمعنى الحقيقى المفهوم بل اعتداءات يقابلها انسحاب ، ومع عدم رد الاعتداء ومع فوضى الانسحاب زادت الخسائر البشرية والمادية ...
37 - اهتزت ثقة البعض فى فلسفة المجتمع وسياساته ، وحدثت فجوة بين جزء من الشعب وحكامه ، وكأى مجتمع يتعرض لهزيمة نفسية فإنه يحتاج إلى ما يساعده على الهروب من الواقع والنسيان والتخفف من الأحمال ونسيان الأحلام والآمال التى لم تتحقق ، والخوف من الأحلام الجديدة ، لذلك نجد أفلاماً سينمائية غنائية خفيفة يستمر عرضها فى دور العرض السينمائى لما يزيد على 50 أسبوعاً ( أبى فوق الشجرة – خلى بالك من زوزو ) نظراً لمادتهما الخفيفة التى كانت نفسية الشعب فى أمس الحاجة إليها هرباً من واقع الهزيمة ومشاعر الانكسار ...
- ولذلك أيضا نجد مسرحية مثل مدرسة المشاغبين تحقق نجاحاً كبيراً ، ويستمر عرضها لسنوات طويلة ؛ حيث كانت هذه المسرحية تعبيراً عن رغبة جزء من المجتمع ( الطلاب المشاغبون ) فى الخروج على سلطة المعلم والأب والحاكم ، والتمرد على فكرة الطاعة والالتزام والانصياع الكامل لهما ، بل والعمل – أيضاً - على كسر هيبتهم واحترامهم نتيجة لرغبة العقل الباطن فى الانتقام من تلك السلطة وتلك العلاقة التى لم تسفر إلا عن الهزيمة والنكسة ...
38 - وكانت تلك الفترة بداية ظهور أعمال فنية تقدم مؤشرات أولية على التغيير الاجتماعى والنفسى والأخلاقى والقيمى الذى سيحدث وسيظهر مستقبلاً فى المجتمع ...
فبدلاً من تلك الأعمال التى كانت تدعم قيم العمل والعلم والصدق والإخلاص والوفاء والاتقان والصبر والكرامة والاستقلال والانتماء والحرية ؛ ظهرت أعمال تسخر من قيمة العلم والعمل والوطنية ، وترسخ المفاهيم الفردية والأنانية واليأس والاحباط والهروب ...
* هذه الأعمال الفنية كانت بالنسبة للكبار البالغين الناضجين المهزومين الغاضبين نوعاً من التنفيس والتعويض النفسى والهروب ، ولكنها كانت وفى نفس الوقت بالنسبة للأطفال والنشء الصغير هى المعلم والمربى والموجه ، والمشكل لثقافتهم ووجدانهم وتفكيرهم ، وهى العمود الفقرى واللبنة الأساسية التى ستساهم فى بناء شخصياتهم فيما بعد ؛ ففى الوقت الذى كان يضحك فيه الكبار من أجل التنفيس عن أنفسهم وعن شعورهم بالانكسار كان الصغار يتشكلون وتتكون شخصياتهم من هذه الأفكار ، كان الكبار يشاهدون تلك الأعمال ليضحكوا أو ليهربوا ... وكان الصغار يشاهدونها ليتعلموا ويقلدوا ...
39 - جزءٌ آخر من المصريين رأوا فى الهزيمة إعلاناً عن فشل فكر المرحلة ، وتوجهات الدولة ، ومستوى علمها واقتصادها ، ودفعتهم الهزيمة إلى السفر للخارج أو للهجرة ، خاصة بعد أن خففت الدولة من قيود وشروط السفر للخارج فسافر البعض إلى أمريكا وكندا والبعض إلى أوروبا والبعض إلى أستراليا واليابان وغيرها من الدول ، وكانت هذه الفترة بمثابة أول موجة لهجرة المصريين والتى ستزيد فيما بعد ...
40 - جزؤ آخر من المجتمع المصرى أرجع الهزيمة فى 1967 إلى عدم غلبة الفكر الإسلامى على كل جوانب الحياة ، وأن ما حدث هو هزيمة للمسلمين من اليهود نظرأ لعدم تطبيقهم الحكم الإسلامى ، ومن هنا ظهر تيار فكرى يرى فى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الحل لهزيمة إسرائيل وتحرير الأراضى المحتلة وتقدم ونصرة الأمة ، لذا لجأ أصحاب هذا التيار إلى رفض الفكر الإسلامى الذى تقدمه وتتولى مسئوليته وتشرف عليه الدولة مثل مؤسسة الأزهر الشريف والأوقاف وغيرها ... وظهرت تيارات وحركات إسلامية جديدة على الواقع المصرى تبلورت فيما بعد وتعددت وانقسمت فيما بينها ... وهى ما ستظهر تأثيراتها فى المجتمع المصرى فيما بعد .
41 - ورغم كل تلك المشاكل ورغم أن الهزيمة كانت مفاجئة والصدمة كانت كبيرة إلا أن الشعب المصرى العظيم رفض أن يستسلم للهزيمة ... وجدد الثقة فى رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر الذى بدأ فى الاستعداد سريعا لمعركة تحرير الأرض ... وأطلق شعاراً كان ضرورياً لهذه المرحلة ومعبراً عنها وهو أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير بالقوة ... وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة .
42 - بدأت مصر فى إعادة بناء القوات المسلحة ، وتم توجيه كل موارد الدولة والخطط والأعمال والمجهودات والميزانيات لذلك ... كانت مرحلة إعادة البناء شديدة التكلفة ولكنها ضرورية ولا فرار منها ، ضحى الشعب من أجل إعادة بناء قواته المسلحة ، وضحى الجميع من أجل مصر ...
* بدأت مصر فى بناء حائط الصواريخ ( منظومة دفاعية مضادة للطائرات المعادية ) حتى لا تتعرض أراضى مصر لضربات جوية جديدة وبدأت فى تجهيز القوات البرية والجوية والبحرية ، وبدأت معارك الاستنزاف التى كانت مكلفة اقتصادياً ولكنها ضرورية معنوياً وعسكرياً ، وقد نجحت جزئيا فى إعادة الثقة للجندى المصرى ، وإيمانه الكامل بقدرته على القتال وتحقيق النصر ، ورغبته وتحفزه ليوم تحرير الأرض ...
43 - تم تهجير سكان مدن القناة ( بورسعيد والإسماعيلية والسويس ) حوالى 750 ألف نسمة وبعض أبناء سيناء ( حوالى 11 ألف نسمة ) إلى محافظات الجمهورية المختلفة فمثل هذا ضغطاً وعبئاً على جودة الخدمات ( بسبب إعادة تسكين المهجرين فى مناطق جديدة ) مثل الوظائف والإسكان وأعداد الطلبة فى المدارس وغيرها ... وانخفضت بالتالى إيرادات الدولة من الضرائب .
44 - فقدت مصر مورداً هاماً من مصادر دخلها وهو دخل قناة السويس الذى توقفت فيها الملاحة لمدة 8 سنوات حتى تم تطهيرها وافتتاحها فى سنة 1975 ، وكذلك فقدت مصر السيطرة على آبار البترول الموجودة فى سيناء وفقدت مواردها من تلك الآبار ، كما انخفضت إيرادات مصر السياحية .
45 - نتيجة لتحويل ميزانية الدولة إلى دعم المجهود الحربى ( وهو ما يعرف باسم اقتصاد حرب ) فإن خطط وأعمال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والبنية الأساسية قد توقفت أو كادت ... وكانت الدولة مضطرة إلى ذلك وليست لديها اختيارات أخرى ... وهكذا فبدلاً من بناء المدارس والمستشفيات والمصانع ورصف الطرق وإقامة شبكات الكهرباء والتليفونات والمواصلات والمياه والصرف الصحى تم توجيه الأموال والميزانيات إلى شراء الصواريخ والطائرات والدبابات والمدرعات والبنادق والمدافع والقنابل والرصاص ... وكان من نتاج هذا تراجع مستويات البنية الأساسية وهو ما ظهرت نتائجه بعد ذلك فى السبعينيات والثمانينيات حيث زادت أعداد السكان زيادات كبيرة ومثلت ضغطاً على المرافق التى لم تكن قد زادت أو تحسنت أو تمت صيانتها ...
46 - كان الاستعداد لمعركة تحرير الأرض يتطلب زيادة قوة الجيش المصرى كيفا وكما ... لذلك عملت الدولة على زيادة أعداد الجيش وتم إطلاق فترة الخدمة العسكرية لكل المجندين ... فلم يكن يخرج من الخدمة العسكرية أى ضابط أو جندى وبالتالى لم يكن يعرف أحد منهم متى ستنتهى مدة خدمته ... ؟
- وكان من نتاج ذلك أن القوات المسلحة المصرية ارتفع أعداد قواتها من 400 ألف ضابط وجندى فى 1967 فى مصر واليمن إلى مليون ومائتى ألف ضابط وجندى فى 1973 مما كان له أكبر الأثر فى تحقيق انتصار حرب أكتوبر 1973 إلا أنه وفى نفس الوقت كان لذلك أثر سلبى على المجتمع فيما بعد إذ أن أغلب هؤلاء الشباب المجندين لم يستطيعوا العمل أو الارتباط أوالزواج أثناء فترة تجنيدهم ( حيث كان سن الزواج وقتها منخفضاً فأغلب الشباب يتزوجون فى العشرينيات من عمرهم ) ، وهو ما مثل بداية مشكلة ارتفاع سن الزواج حيث إن زيادة أعداد الجيش المصرى بـ 800 ألف ضابط وجندى كانت تعنى فى نفس الوقت وجود 800 ألف فتاة تقريبا تنتظر انتهاء الحرب لإتمام مراسم الزواج .
47 - استمراراً لسياسات الرئيس جمال عبد الناصر الداعمة للفقراء والضعفاء فى مواجهة الأغنياء والملاك أصدر فى 1968 قراراً بتشكيل ما يعرف باسم لجان إعادة تقدير القيمة الإيجارية وكانت مهمتها النظر والحكم فى الطلبات المقدمة من السكان المستأجرين للعقارات بخصوص التظلم من ارتفاع قيمة الإيجارات ، وكانت قرارات هذه اللجان فى أغلب الأحيان تأتى بتخفيض القيمة الإيجارية ... وكان من نتيجة سياسات التدخل هذه فى العلاقة بين الملاك والمستأجرين أن انصرف ملاك العقارات والأغنياء عن بناء العقارات بغرض تأجيرها ، خاصة أن حالات الزواج قد انخفضت بسبب الحرب ؛ وكان السوق العقارى وقتها به فائض من العقارات التى يبحث أصحابها عن مستأجر لها ...
- ومن هنا ولدت مشكلة الإسكان فى مصر وبدأت فى النمو إلى أن زادت وكبرت واستفحلت كما سنرى فيما بعد خاصة مع وجود مؤثرات أخرى أيضاً سنتكلم عنها فى حينها ...
48 - زاد عدد سكان مصر فى الفترة من عام 1967 إلى 1973 ما يقرب من (5) ملايين نسمة ... وإذا ما وضعنا فى الاعتبار النقاط السابقة التى تكلمنا عنها والخاصة بعدم زيادة أو تنمية أو صيانة البنية الأساسية للدولة والمرافق العامة لعرفنا أسباب الفجوة والأزمة التى حدثت فيما بعد فى مستوى الخدمات العامة ، وكيف أن بداية المشكلة كانت فى تلك الفترة التى أعقبت حرب 1967 والتى ظلت تتفاقم تدريجياً حتى انفجرت فى السبعينيات والثمانينيات ...
49 - دخلت مصر حرب أكتوبر 1973 تحت قيادة الرئيس الراحل أنور السادات بكل ما استطاعت تجهيزه من سلاح ومعدات وجنود ... وحققت معجزة عسكرية لم يصدقها الصديق والعدو ... ووقف العالم مبهوراً بها وبقوة وشجاعة الجندى المصرى وعبقرية الخطة ودقة التنفيذ ... حطمت مصر حائط خط بارليف وحطمت معه الغرور الإسرائيلى ونظرية تفوق الجيش الإسرائيلى الذى ادعى وقتها أنه لا يقهر ... عبرت مصر قناة السويس وعبرت أيضاً الحالة النفسية السيئة التى عاشتها بعد 67 .
50 - حققت مصر جزءاً كبيراً من أهداف دخولها الحرب ... وهو تحريك القضية من مرحلة اللاسلم واللاحرب التى كانت سائدة وقتها والتى كان يرضى عنها قطبا العالم وقتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى ( فترة الحرب الباردة ) إلى مرحلة من التفاوض المتوازن المبنى على قوة مصر بعد أن استطاعت كسر غرور الجيش الإسرائيلى الذى عاش بعد حرب 1967 فى حالة غرور وثقة غير مبررة وبعد أن فرضت مصر على الأرض وضعاً جديداً حرمت فيه إسرائيل من المزايا الاستراتيجية التى كانت تستند عليها من وجود قواتها على شاطئ قناة السويس واستفادتها منها كحاجز ومانع طبيعى قوى .
* كان الموقف الاقتصادى لمصر وقت حرب أكتوبر ليس بالجيد ... ولكن حكمة القيادة المصرية وعظمة شعبها ووقوف دول عربية شقيقة ودول أخرى صديقة بجوار مصر ... كل ذلك ساعد فى صمود مصر وتحقيقها أفضل نتائج ممكنة بأقل امكانات ممكنة ...
51 - انتهت حرب أكتوبر بنصر كبير حققته مصر ... انتصرت مصر عسكرياً وسياسياً ومعنوياً ونفسياً ... ولكن تغييرات كثيرة حدثت بعد انتهاء الحرب نتجت عنها مرحلة جديدة على المستوى السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى والنفسى والأخلاقى .
52 - كان سعر برميل البترول قبل حرب أكتوبر 73 يزيد قليلاً على دولارين ... وكانت الدول العربية المصدرة للبترول تأمل وتسعى لزيادة السعر إلى 3 دولارات ( خاصة أن السعر تتم قسمته بين الدولة صاحبة الأرض والشركة المستخرجة للبترول ) فلم يكن يتبقى للدولة صاحبة الأرض إلا نصف السعر تقريباً وهو دولار واحد فقط وهو مبلغ زهيد ... ولكن محاولاتها لزيادة الأسعار لم تثمر نجاحاً ملحوظاً فى ظل تعنت وإصرار دول الغرب المستوردة للبترول ... إلى أن قامت حرب أكتوبر وقامت الدول العربية المصدرة للبترول بتخفيض إنتاجها من البترول ووقف تصديره إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية التى وقفت بجانب إسرائيل فى الحرب ... خاصة أن بعض هذه الدول قدمت لإسرائيل مساعدات عسكرية ضخمة وغير مسبوقة .
53 - على ضوء قرار تخفيض إنتاج البترول ومنع التصدير زادت أسعار البترول عالمياً إلى ما يقرب من 11,65 دولار للبرميل واستمرت الزيادة فى الأسعار حتى وصلت إلى ما يقرب من 40 دولاراً فى الثمانينيات .
54 - كان من نتائج هذه الزيادات الضخمة فى أسعار البترول أن ارتفعت عائدات الدول العربية البترولية مثل السعودية والإمارات العربية وليبيا والجزائر والعراق والكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان ... وبناء على هذه الطفرة والوفرة المالية بدأت هذه الدول مرحلة جديدة فى تاريخها وهى بناء مجتمعات ومدن عصرية وتأسيس بنية أساسية ... وبدأت فى بناء كل ما يلزم لذلك من مدارس ، وجامعات ، ومستشفيات ، وإدارات حكومية ، وعمارات ، وأبراج ، ومحاكم ، وطرق ، وشبكات كهرباء ، ومياه ، وصرف ، ومراكز تجارية ، وحدائق ، ومصانع و ... إلخ
55 - ولكن هذه الدول فى حينها كانت تفتقر للعناصر البشرية المتعلمة والمؤهلة والمدربة لصناعة وبناء البنية الأساسية المطلوبة ولم تكن هناك دولة فى المنطقة العربية تملك وفرة مدربة ومؤهلة ومتعلمة من العنصر البشرى مثلما تملك مصر ... ولذلك عملت هذه الدول على استقدام المصريين للعمل فى بلادها من أجل تنفيذ خططها ومشروعاتها التنموية والتعميرية وقد صادفت ذلك موافقة ورغبة من المصريين الذين كانوا فى حاجة إلى زيادة دخولهم بعد حرب أكتوبر وارتفاع الأسعار العالمية لكثير من المواد الخام والمنتجات بعد زيادة سعر البترول ومع الانفتاح الاقتصادى وما واكبه من زيادة الأسعار وسرعة الحياة فى مصر ...
56 - كانت للرئيس السادات وجهة نظر وتوجه اقتصادى يختلف عن توجه الرئيس جمال عبد الناصر ... ففى عهد الرئيس عبد الناصر كانت الاشتراكية هى التى تحكم الاقتصاد المصرى ولكن الرئيس أنور السادات رأى أن المواطن فى الدول الغربية الرأسمالية يعيش فى مستوى اقتصادى أعلى كثيراً من المواطن فى الدول الاشتراكية ، وأن الدول الرأسمالية تتقدم وتزدهر بعكس الدول الاشتراكية ... ولذلك بدأ عقب حرب أكتوبر فى التحول إلى اقتصاد السوق الحر ... خاصة وأن مصر ( وكما أعلن ) كانت قد حاربت فى أكتوبر1973 حتى آخر جنيه فى ميزانيتها ، ولم تعد الدولة قادرة على تحمل تكلفة القيام بكل الأعباء الاقتصادية التى كانت الدولة تقوم بها وتتحملها من قبل ، والتى رأى السادات أن إسناد أغلبها إلى القطاع الخاص سوف يحسن من جودتها وكفاءتها ... وأن الحرية الاقتصادية بالتوازن مع إعطاء جرعات من الحرية السياسية سوف يثمران مجتمعاً متقدماً ومنتجاً حتى ولو تعثرت خطواته الأولى
57 - ولذلك فقد أعلن سياسة الانفتاح الاقتصادى بما فيها من دعوة المستثمرين العرب والأجانب للعمل فى مصر وحرية الاستيراد والتصدير وتشجيع القطاع الخاص وعدم توسع القطاع العام وبالتالى تخفيف سيطرته على مقدرات الاقتصاد ...
58 - بدأت مصر فى تقليل أعداد المجندين بالجيش المصرى خاصة الذين التحقوا بالخدمة العسكرية فى 1966 ، 1967 ، 1968 ، 1969 ، 1970 ... كما قامت الدولة بتعيين أغلبهم فى وظائف حكومية من أجل تعويضهم عن فترة التجنيد الطويلة والتى أهدرت سنوات من أعمارهم ... كما أن الدولة وقتها كانت تتكفل وتلتزم بتعيين كل الخريجين عن طريق وزارة القوى العاملة طبقاً للسياسات الاشتراكية ...
59 - ولكن ولأن البنية الأساسية والخدمات والمرافق العامة ومصانع القطاع العام لم تكن قد توسعت خلال فترة ما بين الحربين بالقدر الكافى الذى يسمح باستيعاب كل تلك الأعداد والحاجة إليها ... فقد أصبح أغلب هؤلاء المعينين عبئاً إضافيا على الهيكل الإدارى للدولة ... وعبئا ماليا على ميزانية القطاع العام والدولة وعمالة زائدة غير منتجة ... وزادت أعداد الموظفين والعاملين أكثر مما يحتاجه حجم العمل ... وتضخم الجهاز الإدارى للدولة أكثر مما كان ... والمعروف أن كثرة أعداد العاملين والموظفين فى مكان ما تضر العمل أكثر مما تفيده حيث تنتشر روح الكسل والتراخى والإهمال واللامبالاة والاعتماد على الغير وعدم الإحساس بالقيمة ... كما تسببت زيادة أعداد العاملين فى عجز جهة العمل والإدارة ( وهى هنا الدولة ) عن تقديم مرتبات وأجور جيدة للعاملين ...
60 - بخروج مئات الآلاف من الشباب من الجيش المصرى سعوا إلى الارتباط وإتمام زواجهم ، وهنا بدأت مشكلة الإسكان فى الظهور وبقوة وبشدة ... أعداد الراغبين فى الزواج الباحثين عن شقق تتجاوز مئات الآلاف ... الدولة لم تبن شققاً ولا مساكن شعبية جديدة لأن ميزانيتها كانت موجهة للتجهيز للحرب ... القطاع الخاص أعرض عن بناء شقق أو بيوت جديدة بغرض الإيجار منذ عدة سنوات خوفاً من قرارات لجان إعادة تقدير الإيجارات ... لأن البناء بغرض التأجير لم يعد مربحاً ... كما أن أحداً فى مصر كلها لم يكن يعرف متى سنحارب ؟ أو متى ستنتهى الحرب .. ؟ أو كيف ستنتهى الحرب لو حدث ودخلتها مصر .. ؟ وهل سننتصر أم سننهزم .. ؟ ومتى سيخرج الشباب من الخدمة العسكرية.. ؟ ... وكأى نتيجة طبيعية تحدث فى سوق أى سلعة يقل المعروض منها عن المطلوب زادت أسعار الشقق زيادات كبيرة وأصبح أغلب المعروض هو شقق للتمليك فقط ، واختفت اللافتات التى كانت تعلن عن وجود شقق للإيجار ... وظهرت ظاهرة جديدة لم تكن موجودة من قبل وهى خلو الرجل ... [3]
61 - رغب الرئيس السادات وأراد وسعى لأن يعيش الشعب المصرى فى مستوى أفضل يعوضه عن سنوات الحرب ومعاناتها ؛ لذلك فقد انتهج سياسة الانفتاح الاقتصادى على العالم ... وكان الرئيس السادات يدعو ويسعى ويبشر المصريين بأن السنوات القادمة هى سنوات الرخاء معتمداً على أن الدولة سوف تعيد بناء اقتصادها بدون استنزاف مواردها فى الإنفاق الحربى والعسكرى ...
62 - المستثمرون الأجانب الذين أتوا إلى مصر لم يأتوا بغرض التصنيع ، والإنتاج ، وتنمية الاقتصاد ، وتحسين أحوال الشعب المصرى ... وإنما أتوا بغرض بيع منتجاتهم المصنعة فى الخارج إلى الشعب المصرى ، لذلك زادت عمليات الاستيراد بشدة ، وبدأت الماركات الأجنبية العالمية والمنتجات المستوردة تغزو الأسواق المصرية وتسيطر عليها ... على حين لم تكن مصانع القطاع العام المصرية قادرة على منافسة المنتجات المستوردة لأنها لم تعرف فكرة التنافس والتطوير والتنوع والتجديد من قبل بل كانت هذه المصانع تعمل وتنجح وتربح بسبب احتكارها للسوق ؛ وبسبب الحماية التى كانت توفرها لها القوانين الاشتراكية مثل منع الاستيراد ، بالإضافة إلى أن أغلب مصانع القطاع العام كانت تدار بفكر وعقلية موظفين تقليدين نمطيين وليس بفكر وعقلية رجال أعمال مغامرين طموحين ...
63 - بالإضافة إلى أن تلك المصانع أصبحت مليئة ومكدسة بأعداد كبيرة من العاملين والموظفين والمديرين الذين لا تحتاج إليهم العملية الإنتاجية والتى تتسبب بالتالى فى روتينية وبيروقراطية العمل والإنتاج مما يرفع من تكلفة السلعة ويجعلها غير قادرة على المنافسة خاصة وأن مصانع كثيرة قد وصلت ماكيناتها ومعداتها إلى حالة كبيرة من السوء والضعف بسبب الإهمال وعدم الصيانة وعدم التجديد والتحديث ...
64 - زادت أسعار الشقق بصورة كبيرة ومتزايدة ، وأصبح الحصول على شقة يمثل حلماً ليس من السهل تحقيقه ... ومانعاً وحاجزاً وعقبة فى طريق أى إنسان [4] ... وأصبحت الزيجات لا تتم إلا إذا كان الشاب المتقدم للزواج حائزاً على شقة وأصبح السؤال التقليدى الذى يسأله والد أى فتاة للعريس المتقدم : عندك شقة يا ابنى .. ؟ ...
وبسبب أزمة الإسكان تم رفض الكثير من " العرسان " ... وانتهت الكثير من العلاقات ... ولم تتم الكثير من الزيجات ...
65 - لم يكن المصريون يفضلون السفر للعمل فى الخارج ولم يعرفوا هذه الطريقة لطلب الرزق قبل حرب أكتوبر ، ولكنهم اضطروا إليها بعد أن ضاقت بهم الظروف الاقتصادية فى مصر ، وبعد أن أصبح الدخل من السفر والعمل بالخارج أضعاف الدخل فى مصر ، فسافر المصريون إلى الدول العربية البترولية مثل ليبيا والعراق والكويت والإمارات وقطر والسعودية والبحرين وعمان ... كانت هذه الدول فى حالة تعطش لكل المهن والتخصصات .
- سافر المصريون من أجل زيادة دخولهم لمواجهة الغلاء المتزايد وكان السبب الرئيسى للسفر هو السعى من أجل تدبير الأموال لشراء الشقة اللازمة والضرورية لتكوين أسرة .
66 - مع بداية الانفتاح امتلأ السوق المصرى ببضائع أجنبية لم يكن المستهلك المصرى يعرفها من قبل ، ونظراً لحالة الانغلاق والحرمان التى عاشها المصريون فى الستينيات ... فقد وجدت هذه المنتجات إقبالاً كبيراً من المشترين ، وبدأ المصريون فى تفضيل المنتج المستورد على المنتج المحلى ... نظراً لتميزه أو لاختلافه عن المنتج المصرى ... ومن هنا بدأت الفجوة الطبقية فى الزيادة وبدأت المظهرية فى الظهور ؛ فمن يشرب سجائر مستوردة يشعر بأنه أفضل ممن يشرب سجائر مصرية ... ومن يستعمل عطوراً مستوردة يشعر بأنه أفضل ممن يستعمل عطوراً مصرية ... ومن يلبس ملابس مستوردة يشعر بأنه أفضل ممن يلبس ملابس مصرية ... ومن يأكل شيكولاتة مستوردة يشعر بأنه أفضل ممن يأكل شيكولاتة مصرية وهكذا .
67 - سافر المصريون من جميع المهن للعمل فى الدول البترولية ... الطبيب ، والمهندس ، والمدرس ، والمحاسب ، والمحامى ، والقاضى ، ودكتور الجامعة ، والسائق ، والممرض ، والإدارى ، والعامل ، والميكانيكى ، والسباك ، والكهربائى ، والنجار ، والحداد ، والبنا ، والحلاق ، والعامل ، والبائع ، ومندوب المبيعات .... إلخ كما سافر من لا مهنة له لكى يعمل فى أى مجال ...
سافر كل هؤلاء ليحصلوا على دخل أعلى ، وحقق أغلبهم ما كانوا يهدفون إليه ... وكان من السهل التمييز بين الأسرة التى سافر عائلها للعمل فى دول النفط وبين من لم يسافر عائلها للخارج ... والشاب الذى سافر للعمل بالخارج عن الشاب الذى لم يسافر ؛ فكل من سافر أصبح أفضل وأعلى دخلاً ممن لم يسافر حتى ولو كان أقل مهارة أو كفاءة منه أو اصغر سناً أو أقل خبرة ؛ بل إن الممرض الذى سافر للعمل بالخارج أصبح يحصل على دخل أعلى من الطبيب الذى لم يسافر ... والعامل الذى سافر أصبح أعلى دخلاً من المهندس الذى لم يسافر ... ومدرس الجامعة الذى سافر حصل على دخل أعلى من دخل رئيس الجامعة أو عميد الكلية الذى لم يسافر ... ومن كان لا يعمل فى مصر ويعتبر من الفاشلين سافر وعاد محملاً بالأموال ... وكان هذا من العوامل التى ساعدت على عدم إتقان العمل وعدم الحرص على جودة العمل ... فالسفر للخارج أكثر ربحاً من إتقان العمل وإجادته ... ولذلك سعى الكثيرون للسفر أكثر مما سعوا لتطوير مهاراتهم وإمكاناتهم ...
68 - ومن هنا بدأت مشاكل مجتمعية جديدة فى الظهور فى المجتمع المصرى ... كان المجتمع قبل ذلك يقدر ويحترم ويبجل الإنسان المتعلم سواء كان طبيباً أو مهندساً أو مدرساً ... وكان يحترم موظفى الدولة ويحترم ويبجل رجل الدين ... أما فى السبعينيات وبعد الانفتاح الاقتصادى وظهور المنتجات الأجنبية المستوردة وتنوعها ، وظهور أزمة الإسكان وزيادتها وأزمة الزواج وسرعة الحياة ولهاث أغلب المجتمع نحو الحصول على الأموال ... فإن الاحترام هنا لابد أن يتحول ويصبح كل التقدير لمن يملك الأموال ، ولمن يستطيع الحصول عليها ... ولتصبح الفلسفة الجديدة لأغلب المجتمع هى ليس المهم ماذا تعمل .. ؟ وليس المهم ماذا تعلمت وما هى مؤهلاتك العلمية .. ؟ وليس المهم ماذا تقدم للمجتمع .. ؟ وليس المهم ماذا لديك تستطيع أن تفيد به الناس .. ؟ ولكن المهم والأهم هو كم تملك من الأموال .. ؟ وما هو دخلك .. ؟ ما هى نوعية الملابس التى ترتديها .. ؟ هل لديك شقة .. ؟ هل لديك سيارة .. ؟ وما نوعها .. ؟ أين تسكن .. ؟ ما هى الأجهزة المنزلية التى لديك .. ؟ ... إلخ
69 - كذلك اختلفت نظرة المجتمع للأعمال واختلفت الأعمال التى تؤدى إلى النجاح وكسب الأموال ... فبعد أن كان العمل الجاد والإنتاج الحقيقى هما فقط السبيل إلى النجاح وكسب الأموال ظهرت أسباب أخرى مثل السمسرة ، والعمولات ، والوكالة ، والتهريب ، وتجارة العملة ، وتحويل الأراضى الزراعية لأراضى مبان ...
70 - تعرض المجتمع لضغوط مادية واجتماعية كبيرة ... الحياة أصبحت أكثر غلاءً ... والمراكز الاجتماعية تتبدل وتتغير بسرعة ... من سافر للخارج تضاعف دخله ... ومن يعمل فى القطاع الخاص دخله أعلى ... وكذلك من يعمل فى الشركات الاستثمارية ، وكذلك من يعمل فى شركات البترول أو البنوك الجديدة أو فى شركات الاستيراد والتوكيلات التجارية ... أما من يعملون بالدولة أو القطاع العام أو الهيئات الحكومية وهو القطاع الأكبر فى المجتمع وهم من يديرون ويسيرون أغلب الأنشطة فى مصر فأصبحوا الأقل دخلاً ... انقلب الهرم الاجتماعى فى مصر فجأة ... وبدأ الاحتقان الاجتماعى فى الظهور ... فى الستينيات كانت الفوارق الطبقية تقل ... أما الآن فالفوارق تزيد والفجوة المجتمعية تتسع ...
71 - قبل ثورة يوليو 1952 كان هدف المجتمع هو السعى لإجلاء القوات الإنجليزية عن مصر وتحقيق الاستقلال التام ... ولذلك كان للمجتمع هدف يسعى إليه ويجاهد من أجله ...
بعد ثورة 1952 كان هدف المجتمع هو إثبات الوجود أمام القوى الدولية وإنجاح الثورة ، وتأكيد الذات ، وبناء الدولة ، وتحديث المجتمع ، وتحقيق التنمية ... ولهذا كان المجتمع يعمل ويتقدم وهو أقل نزاعاً وأقل خلافاً ...
وبعد 1967 كان هدف المجتمع هو تحرير سيناء وإزالة آثار العدوان الإسرائيلى واسترداد العزة والكرامة ... أما وقد تحقق النصر فى أكتوبر 1973 وأعلنت الدولة ( وبحسن نية ) ممثلة فى رئيسها الراحل أنور السادات أن تلك الحرب كانت آخر الحروب وأن السنوات القادمة هى سنوات الرخاء ... إذن فالمجتمع الآن ليس له هدف قومى واحد يعمل من أجله ويجتمع عليه ويتحرك الجميع فى اتجاهه ... إذن فالمجتمع ليس له هدف يجاهد من أجله ... إذن فليتنافس الجميع فيما بينهم على أهداف جزئية صغيرة ... وليدخل الجميع فى صراعات مادية وخلافات شخصية ... وليدب الخلاف والاختلاف بين الجميع ... وليتوقفوا عن التعاون ، وليبدأوا فى التنافس وفى التناحر وفى اختلاق المشاكل ... وليعادى المجتمع نفسه ، وليتصارع مع نفسه ، وليعاد الجميع الجميع ... إذن ليخسر الجميع ... وليتخبط الجميع ... وليدب الضعف فى الجميع ... وليضعفوا جميعاً ...
72 - تحت الضغوط المادية التى أصبحت تحكم المجتمع سافر أغلب الكفاءات والكوادر والخبراء منن كل المجالات للعمل بالخارج ... سافروا لينقلوا علمهم وخبرتهم لدول أقل خبرة وعلماً ... وفى نفس الوقت فإن هؤلاء الأكفاء وذوى الخبرات توقفوا عن تطوير أنفسهم حيث الشغل الشاغل الآن هو العودة بالأموال إلى أرض الوطن لمجاراة الغلاء ولتحقيق الذات ولتلبية متطلبات الحياة المتزايدة ؛ هذا فى الوقت الذى كان العالم يشهد طفرات من التقدم فى كل المجالات .
وبسفر الأكفاء والخبراء إلى الخارج كان لابد من تصعيد الأقل منهم ليتولوا مناصبهم ؛ حتى لا تترك أماكنهم شاغرة ؛ وهكذا أصبح بعض المدرسين مدرسين أوائل لأن أماكن وظيفة مدرس أول أصبحت شاغرة ... وهكذا أصبح العامل باشمهندس ، وأصبح الصبى أسطى ، وأصبح التباع سائقاً ... إلخ
73 - بعد نهاية حرب أكتوبر وقيام الدولة بتعيين مئات الآلاف فى الوظائف الحكومية وفى القطاع العام ، ومع تراجع دور الدولة اقتصادياً ومعاناتها فى الاستعدادات الحربية لحرب أكتوبر ومع تشجيع الدولة للقطاع الخاص وسرعة الحياة وزيادة الأسعار أصبح دخل الموظف الحكومى فى مصر ضعيفاً أمام الأسعار الجديدة بل إنه يقل سنوياً ... ولم يكن فى إمكان الدولة المنهكة اقتصادياً ( رغم محاولاتها للإصلاح الوظيفى ) أن تزيد المرتبات بنفس نسب زيادة أسعار الحياة ... وبذلك تبدلت أحوال موظفى الدولة وأصبحوا فى أسفل السلم الاجتماعى فى السبعينات بعد أن كانوا فى الستينيات يعيشون فى مستوى مادى معقول ... وكانت هذه الفترة من السبعينيات هى بداية ظهور تغيرات اجتماعية أخرى ...
74 - بعض الأكفاء والموهوبين والطموحين والمغامرين من موظفى الدولة والقطاع العام عندما رأوا تلك التغيرات الاقتصادية والاجتماعية استقالوا من أعمالهم ... ومنهم من سافر للعمل بالخارج ... ومنهم من التحق بالشركات الاستثمارية الجديدة فى مصر ... ومنهم من اتجه للعمل بالقطاع الخاص أو تأسيس عمل خاص به ؛ وبذلك فقد الجهاز الإدارى للدولة ومصانع القطاع العام العديد من الكفاءات والخبرات ... فأصبح جزء من موظفى الدولة من الكسالى ، وغير الطموحين ، والغير مغامرين ، وقليلى الكفاءة ؛ وبذلك ضعف الجهاز الإدارى للدولة والقطاع العام أكثر مما كان ...
75 - بعض موظفى الدولة والقطاع العام فى محاولة منهم لزيادة دخلهم من أجل تحسين مستوى معيشتهم ومجاراة الأسعار الجديدة لجئوا إلى العمل فى مهنة أخرى بعد انتهاء فترة عملهم الأساسى ( وكان هذا شيئاً غير مألوف قبل ذلك حيث ينص القانون على عدم جواز عمل الموظف بأى عمل آخر ... ) فلجأ البعض إلى المشاركة فى مشروع خاص ، أو فتح محل تجارى ولتساعده زوجته وأبناؤه فى ذلك ، أو العمل على سيارة أجرة ( تاكسى ) ... أو العمل بأجر فى محل تجارى أو إحدى العيادات أو أحد مكاتب الهندسة أو المحاسبة أو المحاماة ، أو فى شراء بعض السلع وإعادة بيعها أو العمل بإحدى المهن الحرفية ... إلخ وكان هذا التوجه هو بداية أسباب تزويغ الموظفين من عملهم أو ذهابهم إلى عملهم وهم متعبون مرهقون ، وبمرور الأيام أصبح هؤلاء الموظفين حريصين على عملهم الثانى أكثر من عملهم الأساسى حيث إن العمل الثانى الإضافى هو الذى يحقق لهم دخلاً أعلى يعينهم على تلبية طلبات الحياة وأسعارها المرتفعة على حين أن العمل الحكومى المحدود الدخل مضمون ولا يجب الحرص عليه بشدة ... ويوما بعد يوم أصبح هؤلاء الموظفون ماهرين فى خلق الأسباب التى يتركون بسببها عملهم الحكومى ... وأصبح حرصهم على إنهاء مصالح المواطنين المترددين على جهة عملهم الحكومى يقل تدريجياً ... وبدأ بعض الموظفين فى تكوين فلسفة جديدة لكيفية تعاملهم مع الوظيفة وكيفية الاستفادة الخاصة منها .
76 - مع زيادة الطابع المادى للحياة ... بدأت ظاهرة التفكك الأسرى فى الظهور ؛ فكثير من الأسر المصرية يسافر عائلها للخارج ويستمر فى سفره وغربته لسنوات طويلة ... ولا يكون نصيب الأسرة من التواصل مع عائلها سوى إجازات قصيرة سنوية أو كل عدة سنوات ...
بل إن كثيراً من الزيجات قد تمت بدون أن يرى العريس عروسه فى الواقع ؛ ففى وقائع كثيرة كان العريس مسافراً للعمل بالخارج ويرغب فى الزواج ولكنه لا يستطيع الحصول على أجازة من عمله ( الذى هو فى أشد الحاجة إليه ) فيرسل لأهله فى مصر ليختاروا له عروساً ويتم عقد القران بتوكيل ... ثم تسافر له العروس ليبدأ الزوجان حياتهما فى الغربة وليتعرفا على بعضهما بعد أن يكونا قد تزوجا ... ومن كان يتردد على مطار القاهرة فى السبعينيات والثمانينيات يستطيع أن يتذكر وبسهولة مشهد سفر بعض الزوجات بفستان الزفاف ...
77 - كذلك فإن الكثير من التفكك الأسرى قد بدأ يصيب بعض الأسر من تلك التى لم يسافر عائلها للخارج ... ولكنه كان يعمل فى مصر فى مهنتين وأحياناً أكثر ... فكان الأب فى دوامة مستمرة من العمل من أجل توفير متطلبات الاسرة ... مما أثر بالطبع بعدم حفاظ الكثير من الأسر المصرية على تماسكها وترابطها التى كانت تتميز به قبل ذلك ...
ومن أسباب زيادة بعض حالات التفكك الأسرى أيضاً خروج المرأة المصرية للعمل خاصة أن كثيراً من حالات عمل المرأة كان بسبب الضغوط الاقتصادية ...
78 - بعض موظفى الدولة من ضعاف النفوس وجدوا فى وظيفتهم وسلطتهم فرصة لزيادة دخلهم حتى يستطيعوا مجاراة الغلاء فبدأوا فى استغلال وظيفتهم والحصول على رشاوى من المواطنين ... وبين بطء وروتين وتعقيدات الإجراءات الحكومية وضعف مرتبات موظفى الدولة ، وغضب بعضهم ومعاناتهم من الفجوة بين مرتباتهم المتدنية وبين سرعة الحياة الاقتصادية ونموها وغلاء الأسعار نشأت الحاجة إلى دفع الرشاوى لتسهيل الإجراءات والتخلص من التأجيل والتسويف والبيروقراطية ورغبة فى الإنجاز وتوفير الوقت ... فى البدء أطلق البعض على هذه الرشاوى أسماء مهذبة مثل إكراميات ، هدايا ، بدل شاى ، فتح مخك ... وذلك حتى لا يصارح نفسه بالحقيقة وهى أنها رشاوى صريحة ...
79 - بدأت هذه الانحرافات فى الجهاز الإدارى محدودة ثم بمرور الوقت انتشرت ... بدأت صغيرة ثم كبرت ... بدأت على خجل وعلى استحياء ثم أصبحت أكثر جرأة بل أصبحت تتم المطالبة بها صراحة ، وأحياناً يتم الدخول فى مناقشات ومفاوضات من أجل تحديد قيمة الرشوة ...
بدأت هذه الرشاوى بطريقة استثنائية بين القلة ... ثم انتشرت وزادت حتى أصبحت هى القاعدة ، والاستثناء هو عدم المطالبة بها ... بدأت هذه الرشاوى لكى يتمكن الموظف من سد حاجاته وليتمكن من تلبية الحد الأدنى لاحتياجاته واحتياجات عائلته ... ثم أصبحت هذه الرشاوى فيما بعد هى الطريقة والوسيلة لامتلاك كل وسائل الرفاهية ... ولتكوين الثروات وامتلاك الزائد على الحاجة ...
80 - وهكذا أصبح البعض من العاملين بالأحياء والمحافظات يرون فى عملهم فرصة لزيادة دخلهم والبعض من العاملين فى المرور ، والبعض من العاملين فى الجمارك ، والبعض من العاملين فى تنفيذ الأحكام القضائية ، والبعض من العاملين فى الإعلانات القضائية ومحضرو الحجز ، والبعض من العاملين فى التموين ، والبعض من العاملين فى الضرائب ، والبعض من العاملين فى أقسام الشرطة ، والبعض من العاملين فى إدارات السجون ، والبعض من العاملين فى الرقابة والإشراف ، والبعض من العاملين فى قطاع الإسكان ، والبعض من العاملين فى إدارات المشتريات ، والبعض من العاملين فى إدارات المزادات والمناقصات ، والبعض من العاملين فى المخازن ، والبعض من العاملين فى إدارات التراخيص والتصاريح ، والبعض من العاملين فى إدارات النقل والتعيين ، والبعض من العاملين والعاملات بالتمريض فى المستشفيات ... إلخ
فى البدء فسد بعض الموظفين رغماً عن إرادتهم تحت ضغط الظروف المادية وكان هذا استثناء ثم أتى بعد ذلك جيل آخر من الموظفين رأوا فى الفساد والرشاوى حقاً لهم ...
81 - تحسنت الرعاية الصحية فى السبعينيات فى مصر قليلاً ... وزاد معدل المواليد ليصبح مليون نسمة تقريباً سنوياً ... ولكن معدلات التنمية الحقيقية والإنتاجية والعمرانية لم تكن تزد بنفس الزيادة ... فما يحدث أن البعض يسافر للعمل بالخارج ويعود أو يرسل الأموال إلى مصر ... أما أغلب الأنشطة الاقتصادية فى مصر فكانت تجارية عبارة عن استيراد لبضائع وبيعها واستهلاكها فى مصر ... وبالتالى بدأ العجز فى ميزان المدفوعات وبدأت مصر فى تلقى الكثير من المعونات ... وبدأت قروض مصر تزداد ...
82 - كان التوسع العمرانى محدوداً ... فالحكومة أو الدولة هى المسيطرة على الأراضى وهى لا تعطيها للمواطنين إلا بعد أن تقوم هى بتوصيل المرافق لها ... وفى نفس الوقت فإن الأراضى المرفقة ( التى يتم تجهيزها بالمرافق ) من قبل الدولة أقل بكثير جداً من أعداد واحتياجات السكان ومن احتياجات المواليد الجدد وأعدادهم ... وهنا بدأت كل مشاكل مصر فى التضخم ...
السكان يتزايدون ويحتاجون إلى التوسع ... ولكن الحكومة لا تساعدهم على ذلك ، تقوم الدولة بالتوسع العمرانى المحدد الذى لا يكفى الزيادة السكنية ... الازدحام يزيد ... العقارات أسعارها ترتفع يومياً وأسبوعياً وشهرياً ... نشاط المقاولات يزدهر ... أصحاب شركات المقاولات وأصحاب العمارات يشيدون الأبراج فى الشوارع والحوارى الضيقة ... يتم هدم الفيلات والمنازل المتوسطة الارتفاع لكى يتم بناء الأبراج مكانها ... بعض العمارات يتم بناؤها بدون مواصفات معمارية وبسرعة زمنية شديدة ؛ فالبيع مضمون ، وكل الشقق محجوزة ؛ فلماذا الانتظار ولماذا يتم بناؤها بجودة .. ؟ العشوائيات تنشأ على حدود المدن الكبرى ... أسعار العقارات الغالية تمنع الشباب من الزواج أو تؤجل توقيت الزواج عدة سنوات ... وترفع تكلفة إنشاء أى مشروع ... بعض الشباب يتزوج فى شقة والدته أو فى شقة والد العروس ... وبدأت مصر تعرف تجريف الأراضى الزراعية والبناء عليها ... كما بدأ هدم العقارات الآثرية والتى كان بعضها يمثل إبداعاً معمارياً ...
83 - المشروعات الجديدة تقام فى المدن الرئيسية فقط ... زيادة أعداد الهجرة الداخلية من الصعيد والدلتا إلى القاهرة والإسكندرية والمدن طلباً للرزق ... بعض الفقراء ومن لا مأوى لهم يلجأون للسكنى فى أحواش المقابر بسبب غلاء العقارات ... البعض يسكن فى مناطق لم يتم توصيل الكهرباء إليها أو المياه أو الصرف الصحى ... وتزدهر العشوائيات ... أعداد المدارس الحكومية الجديدة قليلة والقطاع الخاص يتوسع فى الاستثمار فى التعليم وفى نفس الوقت أعداد المدارس لا تكفى لكل الطلبة والتلاميذ ... متوسط عدد الطلبة فى الفصول يرتفع ... وبسبب أزمة قلة المدارس يتم بناء مبان على ملاعب المدارس فتصبح المدارس بلا ملاعب ... ويبدأ جيل جديد لا يعرف أن المدارس كانت بها ملاعب من قبل ...
84 - أعلن السادات عن سياسة اقتصادية جديدة وهى اقتصاديات السوق الحر والانفتاح والتوجه الرأسمالى [5] وتشجيع القطاع الخاص ... ولكنه لم يستطع التخلص سريعاً من مظاهر كثيرة للدولة الاشتراكية فأصبحت مصر مشتتة لا هى رأسمالية ولا هى اشتراكية ... ينص دستورها على أنها دولة اشتراكية ولكن كل ما يجرى على أرض الواقع من مشروعات جديدة يقول إنها دولة رأسمالية ...
وهكذا لم يكن للدولة هوية اقتصادية واضحة محددة ... فالدولة مازالت تدعم السلع الأساسية ، ومازالت تلتزم بتعيين الخريجين عن طريق وزارة القوى العاملة ومازالت تبنى شققاً للإسكان الشعبى ، ومازالت توزع التموين على المواطنين ... فى حين أنها تعلن تشجيعها للقطاع الخاص وللتعمير ولكنها لا توفر الأراضى الكافية للتوسع ولا تشجع على التوسع الحقيقى ...
85 - كان الرئيس الراحل أنور السادات رئيساً من طراز مختلف أراد أن يغير الحياة فى مصر سريعاً وبسرعة أعلى من درجة تقبل المجتمع فوقع هو فى أخطاء أحياناً ... ووقف ضده تيار مجتمعى أحياناً أخرى ... فعلى المستوى الاقتصادى حاول السادات أن يتخلى عن النظام الاشتراكى ولكنه لم يستطع أن يفعل ذلك بصورة كاملة ، فظلت الدولة تلتزم بتعيين كل الخريجين كمسئولية اجتماعية حتى ولو لم يكن العمل الحكومى فى حاجة إليهم ...
كما تراجع الرئيس السادات عن محاولته فى يناير 1977 لتقليل الدعم ورفع أسعار بعض المنتجات بعد قيام المظاهرات فى 17 , 18 يناير ... وبذلك استمرت الدولة فى تقديم الدعم ومع مرور السنوات ومع كل زيادة للسكان تزيد قيمة الدعم حتى وصلت نسبته إلى 25% من إجمالى ما تنفقه الدولة ...
86 - أما الخطأ الأكبر ( من وجهة نظرى ) الذى وقع فيه الرئيس السادات وسار عليه كل من جاء بعده فهو عدم تطبيق النظام الرأسمالى بطريقة صحيحة تساعد على زيادة الإنتاج زيادات حقيقية وكبيرة ... والاستفادة من الثروة البشرية الكبيرة وذلك بتشجيعها وتحفيزها وإزالة العقبات من أمامها تطبيقاً للمبدأ الاقتصادى الأهم والأكبر فى النظام الرأسمالى وهو " دعه يعمل .. دعه يمر .. " ...
وقد تجسد هذا الخطأ الأكبر والكارثى فى استمرار سيطرة الدولة على الأراضى ... وقيامها بتجهيز الأراضى بكل المرافق من طرق وكهرباء ومياه وصرف صحى وتليفونات قبل طرحها للبيع ... وبالقطع وبالطبع كانت مجهودات الدولة فى هذا القطاع ورغم كثرتها أقل كثيراً من احتياجات المصريين ومعدلات زيادة السكان وزيادة النشاط ... وترتب على ذلك نشوء مشاكل جديدة لم تكن تعرفها مصر بالإضافة إلى تفاقم مشاكل كانت موجودة من قبل ...
87 - قلة الأراضى التى تقوم الدولة بتوفير مرافقها وطرحها للبيع تسبب فى الآتى :- [6]
- زيادة أسعار الأراضى بصورة مستمرة ودائمة وبطريقة مبالغ فيها وغير مبررة ... مما دفع حائزى الأراضى وملاكها إلى حبسها عن الاستعمال طمعاً فى تحقيق مكاسب كبيرة وضخمة من وراء بيعها بعد فترة وبدون إضافة أى شيء أو جهد أو تعمير على الأرض ...
- ارتفاع أسعار الأراضى وضع عقبات مالية رفعت من تكلفة تأسيس أى مشروع وبالتالى أصبحت أعداد المشروعات أقل كماً وكيفاً مما يحتاجه السوق ... ودائماً وأبداً كانت الأراضى وأسعارها عائقاً أساسياً ورقماً صعباً فى دراسة جدوى أى مشروع ...
- مع ارتفاع تكلفة تأسيس المشروعات بسبب ارتفاع سعر الأراضى وقلتها ،ـ ومع زيادة أعداد السكان بدأت تحدث البطالة وقلة الأجور والمرتبات نظراً لتوفر الأيدى العاملة مع عدم توافر فرص عمل تكفى الجميع ...
- مع قلة فرص العمل زادت الهجرة الداخلية من الأقاليم إلى المدن وساءت أحوال المدن وازدحمت وظهرت العشوائيات ... ومع قلة المرتبات زادت الرغبة فى السفر للعمل بالخارج سواء عن طريق عقود قانونية أو هجرة غير شرعية ...
- ارتفاع أسعار الأراضى والعقارات أدى إلى تجريف الأراضى الزراعية من أجل البناء عليها وهو ما تسبب فى تدمير جزء كبير من أراضى مصر الخصبة ...
- ارتفاع أسعار العقارات أدى إلى نشوء ظاهرة العشوائيات فى المبانى والتى لم تكن مصر تعرفها من قبل ، ثم زادت المناطق العشوائية بصورة كبيرة حتى أصبحت تضم الملايين من المصريين ... وبعد فترة لم تعد العشوائيات فى المناطق والأماكن فقط بل أصبحت هناك عشوائيات فى الأخلاق وعشوائيات فى التفكير ... وعشوائيات فى الذوق ... وعشوائيات فى الفن والثقافة ...
- ظهرت ظاهرة سكنى المصريين فى مناطق القبور وأحواشها ...
- ارتفع سن الزواج وارتفعت نسبة العنوسة ...
- زادت حالات الطلاق وزادت أعداد أطفال الشوارع ... وتمت زيجات كثيرة لمجرد أن الزوج كان يمتلك شقة وأموالاً للزواج وليس لأن هناك توافقاً بين الزوجين ...
- مع ضيق الحالة الاقتصادية تدنت الأخلاق ، وزاد الكذب ، والغش ، والنصب ، والخيانة ، والسرقة ، وكل أنواع الجرائم ...
- اختفت الملاعب من المدارس ولم تزد أعداد الأندية ومراكز الشباب مثلما زادت أعداد السكان ...
- انتشرت المخدرات ، وزادت حالات التعاطى ، والإدمان ، والاتجار ...
- زادت الفجوة الاقتصادية بين سكان المدن والأقاليم ...
- تم هدم الآلاف من المنازل القديمة وبناء عمارات وأبراج فى مكانها ؛ فزاد الازدحام والتكدس وظهرت واستفحلت أزمة المرور وانتظار السيارات ... وتم اقتلاع الأشجار والقضاء على المساحات الخضراء من أجل البناء على الأرض ... وقام البعض بتعلية أدوار على مبان لا تتحمل التعلية ، واضطر بعض ساكنى المساكن الشعبية إلى البناء فوقها وبجوارها أو الخروج ببروز من البلكونات ...
- ضاقت الشوارع وزادت أعداد الباعة الجائلين ... وضاقت المقاهى على روادها وزادت حالات عرض المحلات التجارية لبضائعها على الأرصفة وخارج المحلات ...
- مع ارتفاع تكلفة التصنيع وعدم توفر البيئة الصناعية المناسبة والمشجعة لجأ الكثير من رجال المال والأعمال إلى الاستيراد والتوسع فى ذلك ؛ فامتلأت الأسواق بالبضائع المستوردة وبدأت المنتجات المصرية فى الاختفاء لعدم قدرتها على الصمود أو المنافسة أمام المنتج المستورد ذى التكلفة الأرخص والأشكال المتنوعة ...
- ظهرت وانتشرت ظاهرة الاعتداء على أراضى الدولة ووضع اليد وتزوير الأوراق والتوكيلات من أجل الاستيلاء على العقارات والأراضى غير المعروف ملاكها ...
- ومع زيادة حالات سرقة الأراضى كان لابد من وجود وانتشار الأسلحة لدى مغتصبى الأراضى من أجل حماية الأراضى المسروقة والدفاع عنها ...
- ظهر فساد تخصيص الأراضى وفساد كبار مسئولى الدولة فى إعطاء الأراضى لكبار رجال الأعمال ، فمنهم من أخذها مجاناً وبدون دفع أى أموال للدولة ، ومنهم من أخذها بأبخس الأثمان ، ومنهم من اشترى الأرض بالفدان ( 4200 متر ) ثم باعها بالمتر ... وكل نوع من هؤلاء حقق من وراء ذلك الفساد أرباحاً ومكاسب تقدر بالملايين والمليارات ...
88 – عقدت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل ... وبدأت فى استرداد باقى سيناء ... وبالتالى لم تعد هناك قضية قومية يلتف حولها المصريون ... ولذلك انشغلوا بأنفسهم وبدأت الخلافات الداخلية فى الظهور فى المجتمع ...
فظهرت فتنة وخلافات بين بعض المسلمين وبعض المسيحيين ( وهم من كانوا منذ سنوات قليلة يحاربون مع بعضهم البعض ضد عدو الوطن ومحتل أراضيه ) ...
وظهرت تيارات إسلامية متعددة منها ما يدعو إلى تجديد التمسك بالدين فى المجتمع وإحياء سننه والحرص عليها ، ومنها ما يدعو إلى الخروج على الحاكم ولو كان بالعنف ...
وظهرت احتقانات اجتماعية بين بعض الطبقات ، وبدأت الخلافات العائلية والأسرية تزداد ... وبدأت المشاكل بين الجيران تزداد ... بدأت الانتماءات الوطنية تقل ، وبدأت الانتماءات الشخصية تزيد ...
89 - رحل الرئيس السادات بعد اغتياله فى يوم الاحتفال بنصر أكتوبر ولم يمهله القدر لاستكمال رؤيته وتولى الرئيس حسنى مبارك رئاسة الجمهورية ...
كان الرئيس مبارك رجلاً وطنياً مخلصاً وقد اختاره الرئيس السادات ليكون نائباً له نظراً لما قام به بعد حرب 67 عندما كان مديراً للكلية الجوية وقائداً لسلاح الطيران ولكن الرئيس حسنى مبارك كان مختلفاً عن سابقيه السادات وجمال عبد الناصر ، فى أنه لم تكن له أية اهتمامات سياسية فى شبابه ولم يتخيل نفسه ولم يعد ذاته أو يؤهلها ليعمل بالسياسة وإدارة شئون المجتمع ولذلك حاول السير على خطى الرئيس السادات ولم يحاول أن يغير شيئاً ...
عقد الرئيس حسنى مبارك فى بداية رئاسته مؤتمراً اقتصادياً ليطلب من المتخصصين أن يقدموا نصائحهم لتنمية مصر اقتصادياً ؛ فأشاروا بضرورة إنشاء بنية أساسية تشمل شبكات كهرباء ، ومياه ، وصرف ، وطرق ، وتليفونات ، وكبارى ... إلخ وأخذ الرئيس حسنى مبارك فى تنفيذ تلك التوصيات واستمر فى تنفيذها محاولاً أن تفوق معدلات التنمية الاقتصادية معدلات النمو السكانى ولكن هذا لم يحدث ؛ فظلت مظاهر البناء والعمل والتنمية فى المجتمع تتزايد وظلت معدلات مستوى المعيشة تزداد تراجعاً ...
90 – كان الرئيس حسنى مبارك مختلفاً عن الرئيسين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات فهما قد ذهبا إلى السياسة وعملا بها نتيجة لاختيارهما ولرغبتهما أما هو فقد جاءت السياسة إليه ولم يذهب هو إليها ، ولذلك كان أداؤه فى فترة وجوده فى الحكم أشبه بالأداء الوظيفى الروتينى البعيد عن الابتكار ، والبعيد عن التجديد ، والبعيد عن الرغبة فى التغيير [7] ولذلك كانت الأحوال تتغير والأداء يتبدل مع تغيير رئيس الوزراء ؛ فمصر فى فترة رئاسة وزارة د. علي لطفى أو د. عاطف صدقى تختلف عن مصر فى فترة د. كمال الجنزورى عن فترة د. عاطف عبيد عن فترة د. أحمد نظيف ...
مرت سنوات حكم الرئيس مبارك متشابهة تقريباً ولا جديد فيها ... تعيش مصر حالة من السلام مع إسرائيل وتحاول أن تستفيد بها فى تحقيق طفرة اقتصادية ولكنها لا تحدث ... مصر تتحرك ولكنها لا تتقدم ، تتمنى الكثير ولكنها تنجح فى القليل ... تكبر ولكنها تضعف ... تخطو خطوات للأمام ويتقدم العالم أميالاً ... تزداد أعداد المصريين وتزداد مشاكلهم ... لا قضية قومية يعيشون من أجلها ... الاهتمامات فردية أو فئوية أو قبلية ... المستوى التعليمى يتراجع ... جودة العمل تتراجع ... الفساد ينتشر ويؤكد وجوده ... التمسك بالقيم يتراجع ... تظهر وتنتشر قيم جديدة دخيلة على المجتمع ... المشاكل الاقتصادية تتزايد ... الفوارق الطبقية تتزايد ... الهوية المصرية تتعرض لمؤثرات كثيرة ... البعض يسعى لتقليد الغرب والبعض يتأثر بالنجاح المادى لدول الخليج ... مظاهر الدين والتدين تنتشر أكثر مما تنتشر قيم وأخلاقيات الدين ...
91 – دخلت مصر والعالم فى الألفية الميلادية الثالثة ... مصر مازالت لا تمتلك رؤية متميزة ولكنها تحاول ... الرئيس حسنى مبارك لا يزال فى الحكم ... يتكلم عما ينجزه ويقدم مبرراته لعدم تحقق النجاح المطلوب ... بدأ جيل من الموجودين حول الرئيس فى الاختفاء وبدأ جيل آخر فى الظهور ... تدريجياً يختفى دور القطاع العام فى مصر وتتم خصخصته فى صفقات يشوب الكثير منها الفساد ... دور رجال الأعمال يزداد تأثيرا فى مجال المال والسياسة ... مظاهر الديمقراطية الشكلية موجودة وجوهر الديمقراطية غائب ... المنتفعون من نظام الحكم يشيدون به وهم قلة ، والمتضررون ينتقدونه وهم كثرة ... ديون مصر تزداد عاماً بعد عام ... مظاهر العولمة والأجهزة التكنولوجية بدأت فى الانتشار والتطور ( التليفونات المحمولة والكاميرات الرقمية – أجهزة الكمبيوتر المكتبية والمحمولة – زيادة مستخدمى الانترنت – انتشار القنوات الفضائية وانخفاض أسعار أجهزتها – زيادة شركات الطيران – زيادة أعداد السيارات ... )
ومع زيادة كل مظاهر العولمة والتكنولوجيا بدأ معها حراك اجتماعى سياسى لم يلحظه أحد فى بدايته ... بدأ المصريون يعرفون أكثر ، ويفهمون أعمق ، ويتواصلون أسرع ، ولم تعد الدولة وأجهزة إعلامها هى المصدر الوحيد للمعلومات ؛ بل استمد الناس معلوماتهم من الفضائيات المختلفة ، ومن مواقع الإنترنت غير المحدودة ، والتى لا تتوقف عن العمل لمدة 24 ساعة ومن الصحف الخاصة التى بدأت فى منافسة الإعلام الحكومى ... وبدأت الحياة تصبح أكثر سرعة ...
92 - فى السنوات التى أعقبت عام 2000 ظهرت علامات كثيرة تدل على فشل نظام الحكم ولكنها كانت علامات متفرقة ومن هذه الحوادث ... حادث قطار الصعيد فى عام 2002 ... انتشار كبير لأمراض السرطان والفشل الكلوى والفيروسات الكبدية – صفر المونديال – حوادث طرق كثيرة ومستمرة – غرق معديات – سقوط طائرة – غرق العبارة المصرية – احتراق مجلس الشورى – حريق قصر ثقافة بنى سويف – انهيار صخرة الدويقة - ارتفاع سن الزواج وزيادة حالات الطلاق – فجوة اجتماعية كبيرة بين سكان العشوائيات وسكان الكومباوندات [8] ...
93 – على المستوى السياسى ظهرت حركات معارضة جديدة وزادت الوقفات الاحتجاجية ، والاعتصامات ، والمظاهرات ، والإضرابات ، وزادت التوعية السياسية ... وكثرت الأقاويل حول سعى ابن رئيس الجمهورية ليخلف والده فى حكم مصر ... البعض أكد ذلك ... والبعض نفى ... البعض وافق ... والبعض رفض ... والبعض رآه الأفضل ... والبعض رأى استحالة حدوث ذلك ... وتمر سنوات ... قليلون مستفيدون من النظام الحاكم ، وكثيرون مضررون ...
المحاولات للتغيير كثيرة لكنها لا تتبلور فى رؤية أو خطة واضحة ... الغاضبون كثيرون لكنهم متفرقون ، محاولات البحث عن فكر أو شخص بديل مستمرة ولكن بدون نتائج واضحة ؛ إلى أن قامت الثورة التونسية فى نهاية 2010 ، بداية 2011 ... ورأى المصريون والعالم كيف أن تجمع أعداد كبيرة من الشعب التونسى فى الشوارع والميادين أجبر رئيس الجمهورية على الرحيل ... وظهرت فى الأفق بوادر خروج للمصريين إلى الميادين ... وقال البعض إن مصر ليست تونس ، وحاول النظام الحاكم تفادى حدوث نموذج تونس فى مصر ولكنه لم يستطع ؛ فالوقت كان ضيقاً ومتأخراً ... والغضب فى الصدور كان كبيراً ومؤكداً ، والمشاكل والأزمات كانت متراكمة ومتضخمة ... وجاء يوم 25 يناير 2011 وخرج المصريون فى ثورة عظيمة بأعداد كبيرة لمدة 18 يوماً ، اعتقد النظام الحاكم أن الثورة يمكن القضاء عليها أمنيا ... ولم يدرك الفرق بين المظاهرة والثورة ... ظلت الأعداد تتزايد يوماً بعد يوم وتعلن عن إصرارها ورغبتها فى إحداث تغيير وأنهم يبحثون عن حياة أفضل من ذلك الواقع الذى يعيشونه ، حدد المصريون هدفهم من الثورة مبكراً وصاغوه فى الشعار الذى رفعوه " عيش – حرية – عدالة اجتماعية " ... أعلن المصريون عن غضبهم وحددوا أهدافهم ... واستطاعوا فى خلال 18 يوماً فقط أن يجبروا الرئيس السابق حسنى مبارك عن تخليه عن منصب رئيس الجمهورية الذى أمضى فيه ما يقرب من 30 عاماً ...
94 - فوجئ الكثيرون برحيل مبارك والذى لم يكن يتوقعه سوى القليلين ... وعاشت مصر حالة كبيرة من السيولة ، وظهرت النتائج السيئة لمرحلة الاهمال والفشل فى بناء الإنسان التى عاشتها مصر طوال عهد الرئيس السابق حسنى مبارك ؛ فبعد أن نجحت الثورة فى إزاحة الرئيس والكثير من رجاله أخذ المجتمع فى التخبط ؛ ورغم كثرة الأصوات والشخصيات والوجوه التى ظهرت بعد الثورة وكثرة الاحزاب والائتلافات وآلاف البرامج والندوات والمؤتمرات وآلاف المطبوعات والأوراق والصحف وعشرات ومئات المرشحين وآلاف التصريحات ... وآلاف صفحات الفيس بوك ... وملايين الكلمات على مواقع التواصل الاجتماعى ؛ إلا أنه ظهر جلياً أن مصر تعانى من فراغ مدهش وضخم فى العقول البناءة القادرة على طرح الحلول المبدعة والأفكار غير النمطية ...
95 – رحل الرئيس حسنى مبارك وتخبطت البلاد ما بين وطنيين صادقين وآخرين مدعين أو طامعين ... رحل الرئيس مبارك وظهرت سوءات الفشل الذى ولد ونما فى عصره ، فظهرت الفوضى الأمنية ، وانتشرت الأسلحة ، وكثرت حالات السرقة والاعتداء ... وزادت المطالبات الفئوية والاعتصامات والاضرابات ، وحالات قطع الطرق ، والاعتداء على الأراضى والمبانى المخالفة ... وهرب كثير من رءوس الأموال للخارج ، وزاد قلق بعض الاستثمار الأجنبى فنقل نشاطه من مصر ، وانخفضت أعداد السياح ... وأثر كل ذلك على حالة الاقتصاد المصرى فازداد سوءاً ...
96 - رحل الرئيس مبارك وانقسم من وقفوا ضده وبعد أن كان اتحادهم هو سبب رحيله ... ظهرت أحزاب إسلامية كثيرة وظهرت أحزاب ليبرالية كثيرة ... وظهرت حركات وائتلافات ثورية ثم عاد ظهور بعض رجال عصر الرئيس مبارك وانقسم المجتمع إلى ثوار وفلول وإسلاميين وليبراليين ... بل إن كل فصيل من هذه الفصائل انقسم فيما بينه ، واتهم كل فصيل الفصيل الآخر ، وبدلاً من أن يتعلم الجميع دروس الوحدة والتعاون وإيثار المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية راح الجميع يبحثون عن المكاسب الفئوية أو الشخصية ، وبدلاً من أن يتجه الجميع إلى البحث عن الطريق الذى نستطيع به صنع مستقبل أفضل للجميع راحوا يتصارعون ضد الجميع [9] وكل فريق يتهم ويشكك فى الفريق الآخر ... وهكذا مضت سنوات ما بعد 25 يناير ...
97 – رحل الرئيس حسنى مبارك وزادت مشاكل المصريين فظن البعض أن الثورة هى السبب ونسوا أن غياب الرؤية هو السبب ... رحل الرئيس مبارك وجاء من بعده 4 رؤساء تولوا قيادة البلاد ، وقدم كل منهم وعوداً ، وكان لكل منهم أسلوباً ... رحل الرئيس مبارك ومازالت مصر تبحث عن الطريق الذى يضعها فى المكانة التى تستحقها ... ومازال المصريون يبحثون عن الرؤية التى تعدل من أحوالهم وتخفف عنهم متاعبهم وتحول الوعود التى يسمعونها إلى واقع يعيشونه ...
98 – قلبى مع الشعب المصرى الذى تراجعت أحواله وهو من كان يحلم بتحسنها ، ومن غابت عنه ابتسامته وهو العاشق للضحكة ...
دعائى بالرحمة والمغفرة لكل من دفع روحه أو بذل جهداً أو سعى من أجل الحق والخير وتقدم مصر وسعادة شعبها ...
عذرى لكل مسئول حاول أن يصلح فلم يستطع ...
أملى ورجائى أن نكون قد استوعبنا أخطاء كل تجاربنا وألا نكررها ، وأن ننجح فى صناعة مستقبل أفضل لمصر ولكل المصريين ...
كلى إيمان بأننا نستحق أفضل مما نحن فيه ، وكلى أمل وتفاؤل بأننا نستطيع أن نحقق ما نحلم به ...
[1] لا يعنى ذكرى لبعض الانجازات التى تحققت فى مصر فى فترة الستينيات تأييدى أو اقتناعى بالفكر الاشتراكى أو اعتناقى له ... فلست ممن يؤمنون بالنظرية الاشتراكية كنظام اقتصادى وإن كنت من المحبين لأهدافها وهى الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع ... وأرى فى النظرية الاشتراكية عيوباً وأخطاءً كثيرة تفوق نبل أهدافها .... ففى المجتمعات الاشتراكية وبسبب رغبتها فى تحقيق المساواة بين الناس فإنها تسعى إلى وضع أغلب الناس فى قوالب جامدة ، لذلك يقل الإبداع ويقتل الطموح ويهرب الطامحون ويفشل المبدعون وتصبح النمطية هى سمة المجتمع ويصبح الناس متشابهين مثل منتجات الدول الاشتراكية محدودة ومكررة ومتشابهة ... فالاقتصاد الاشتراكى فى أغلب أحواله لا يوفر الحافز الفردى الذى يدفع المبدعين والمتميزين إلى العمل والسعى ...
[2]
على المستوى السياسى المحلى لم تكن هناك حياة سياسية ؛ حيث لا وجود لأى أحزاب سوى حزب واحد فقط ( وهو الاتحاد الاشتراكى ) ، كما أنه لم يكن هناك ما يمكن أن يسمى بالمعارضة السياسية ؛
نظراً للقيود والمضايقات التى كانت منتشرة ضد الحريات ... وبالتالى لم تكن هناك ديمقراطية فى الحياة السياسية ...
[3]
خلو الرجل هو مبلغ يحصل عليه المستأجر مقابل أن يترك المكان المؤجر لمالكه أو لمستأجر جديد ...
[4]
* بنظرة سريعة على الأفلام والمسلسلات الاجتماعية التى عبرت عن مصر فى فترة السبعينيات والثمانينيات نجدها تعبر بأكثر من شكل عن المشاكل الاجتماعية التى عانى منها المصريون والتى كان السبب الأكبر فيها هو مشكلة الإسكان ...
[5]
وهذا لا يعتبر فشلاً من الرئيس السادات – رحمة الله عليه – نظراً لأن الفترة الزمنية التى حاول فيها ذلك لم تكن كافية لإحداث هذا التغيير فى فكر المجتمع والذى يحتاج إلى سنوات ... هذا بالإضافة إلى القضايا السياسية الداخلية والخارجية التى كان فكر الرئيس السادات أيضاً فيها سابقاً لعصره وأحياناً صادماً للكثيرين ...
[6]
* هذه النتائج والمشاكل بدأت فى السبعينات وتأكدت فى الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضى ...
[7]
* كان الرئيس جمال عبد الناصر ذا كاريزما متميزة وكذلك كان الرئيس محمد أنور السادات ذا كاريزما متميزة وما حدث بعد ذلك من وصول الرئيس حسنى مبارك إلى الحكم وهو يختلف عنهما هو شئ طبيعى ومنطقى ؛ فهذه هى دورة الحياة وسنتها فى تعاقب الرؤساء والزعماء ؛ فلا يمكن أن يكونوا كلهم ذوى توجه واحد ...
[8]
* حاول الفن المصرى رصد هذه المرحلة والتعبير عن سيئاتها فى أفلام سينمائية ، ومسلسلات تليفزيونية ، وقصص ، وروايات ؛ فظهر الرصد والتعبير حزيناً مؤسفاً ؛ ودافع البعض عن ذلك فقال إنه تعبير عن الواقع .
[9]
* تعمدت ألا أكتب ما حدث بعد ثورة 25 يناير بالتفصيل ؛ فهذه الفترة شهدت اخفاقات أكثر مما شهدت نجاحات ، وشهدت تأخراً أكثر مما شهدت تقدماً ، وشهدت انقسامات وصراعات أكثر مما شهدت من تعاون واتحاد ... ومع احترامى للجميع فأنا لا أسعى لأن أكون سبباً فى خلاف أو سبباً فى زيادة الانقسام ؛ وإنما أسعى وأتمنى أن أكون سبباً فى وحدة المصريين واتحادهم وعملهم ونجاحهم ...